الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
.تفسير الآيات (19- 30): {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)}.التفسير:قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي قبلها، هي أنها تعقيب عليها، وسؤال بعد سؤال، للسخرية بالمشركين، والاستخفاف بعقولهم التي تتجاوب مع هذه الدّمى التي يعبدونها من دون اللّه.فلقد كانت الآية السابقة على هذه الآيات، معرضا لما لرسول اللّه من مقام كريم عند ربه، وأنه إذ يتلقّى رحمات السّماء وآيات اللّه المنزّلة عليه، على يد ملك كريم مرسل من عند اللّه- فإن ذلك- على جلاله وعظمته- ليس هو كلّ ماله عند ربّه من فضل وإحسان، بل إن اللّه سبحانه قد دعاه إلى ملكوت السموات، وأنزله في ضيافة كرمه وإحسانه، حيث يتناول بيده عطايا ربّه، من حيث يتناولها جبريل عليه السلام.. وإنه قد رأى بعينه ما كان يلقيه جبريل في قلبه من تلك الآيات.ثم عادت الآيات لتقول للمشركين، في سخرية واستهزاء: هذا ما رأى محمد من آيات ربه الكبرى.. فماذا رأيتم أنتم أيها الضالون المكذبون؟{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} أفليس هذا هو كلّ ما رأيتم؟أفليس هذا هو مبلغكم من العلم؟ ثم ما هذا الذي رأيتموه؟ أهو شيء يقف عنده عاقل، ويشغل به قلبه وعقله؟ وماذا يجد العقل في حجر من بين تلك الأحجار التي تسدّ الأفق من حولهم؟ وماذا يجد العقل في شجرة من تلك الأشجار النابتة في صدر الصحراء؟ والرؤية هنا رؤية بصرية، لا قلبية علمية، كما يرى ذلك أكثر المفسّرين، الذين يطلبون للفعل مفعولا ثانيا محذوفا، ويقدرونه هكذا:أفرأيتم هذه المسميات بنات اللّه آلهة تعبدونها من دونه؟ وهذا تكلف يفسد المعنى.فإن سؤالهم هنا عما يرونه واقعا تحت أبصارهم في مواجهة ما رأى النبي ببصره من آيات ربّه الكبرى.. فهذه هي مواقع أبصارهم وما تراه، وهذا هو موقع بصر النبي وما رآه.. وشتان بين موقع وموقع، وبين ما يرى على تراب الأرض، وما يرى في عالم الحقّ، ومطالع النور..!!واللات: صخرة كانت لثقيف.. اتخذت منها صنما تعبده.والعزّى: معبود من معبودات قريش.ومناة: معبود من معبودات قريش أيضا.وفى وصف {مناة} بالأخرى تشنيع عليها، وعلى ما عطفت عليه من أصنام قبلها.. إنها شرّ يضاف إلى شر، وبلاء يجتمع إلى بلاء، وسخف يلتقى مع سخف.وليس قوله تعالى: {الأخرى} نعتا للعزّى، كما يقول بذلك أكثر المفسرين، وأن هذا الوصف أخّر رعاية للفاصلة، على تقدير: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى}.وذلك حسب تقدير المفسّرين، أن الأخرى إنما تجيء وصفا للثانية، لا الثالثة من هذه الدّمى المعبودات.وهذا تعليل مردود من وجوه:فأولا: أن الفاصلة- كما قلنا- في أكثر من مرة- لا ينظر إليها في القرآن الكريم من وراء المعنى، فهى تبع للمعنى، وليس المعنى تبعا لها.وثانيا: أن {الأخرى} جاءت هنا وصفا لمناة، بعد وصفها بأنها الثالثة.فهى وصف متعيّن لها دون غيرها، وإحالته إلى غيرها تبديل لكلمات اللّه.وثالثا: أن وصف مناة بالأخرى، بعد وصفها بأنها الثالثة، ليس مرادا به آخر المعبودات التي تقع تحت أبصار المشركين، بل هناك غيرها كثير.. وإنما المراد بهذا الوصف استثقال هذه المسميات، وقطع الحديث عما لم يذكر منها، وأن مناة هي آخر ما يذكر من هذه الشناعات، التي تتأذى بسماعها النفوس! إنها ثالثة الأثافىّ، أو ثالثة الهموم، وإن النفس لتضيق بهمّ واحد، فكيف بهمّ، وثان، وثالث؟ولو كان همّا واحدا لاحتملته ولكنه همّ وثان وثالث! قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} هو استفهام إنكارى، ينكر على المشركين ضلالهم في أسماء هذه المسميات بعد أن أنكر عليهم المسميات ذاتها.. فهى ذاتها مسميات باطلة، والأسماء التي ركبت عليها أسماء باطلة كذلك، إذا أطلقوا عليها أسماء مؤنثة-، وجعلوها من عالم الإناث.. وهى في حقيقتها ليست ذكورا، ولا إناثا، لأنها من عالم الجماد، الذي يقبل من الأسماء ما كان على لفظ المذكر أو المؤنث.فلما ذا اختاروا لمعبوداتهم جميعها أسماء مؤنثة؟ ولم لم يجعلوها مذكرة؟ ولم لم يجعلوا بعضها مؤنثا وبعضها مذكرا؟ إن ذلك كلّه لا يغير من حقيقتها شيئا.فالبيت من الوبر، أو الشعر، يسمّى خباء، ويسمى خيمة.. وهو هو بيت من الوبر أو الشعر..! وهكذا كل جماد، قابل لأن يوضع له لفظ مذكر أو مؤنث، للدلالة عليه، وهو في كل حال ليس مذكرا ولا مؤنثا! وفى هذا تسفيه لأحلام هؤلاء المشركين، وأنهم يتخذون من هذه الدّمى كائنات حية يلبسونها ثوب الإناث، ويناجونها مناجاة الأطفال للّعب التي يتخذونها من الخشب ونحوه، ثم يطلقون عليها أسماء ذوات حية، ينطقونها، ويتناجون معها، كما يتناجى الأطفال مع لعبهم من عرائس، وخيل ونحوها! ومن جهة أخرى، فإن هذه الدّمى التي يتخذها المشركون آلهة يعبدونها من دون اللّه، هي عندهم تماثيل لبعض الملائكة، الذين هم في اعتقادهم بنات اللّه، وأنهم جميعا أناس ليس فيهم ذكور أبدا.وقوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى} هو سؤال يكشف عن سفه هؤلاء المشركين وحمقهم، حتى في مجال هذا العبث الذي هم فيه.. إذ كيف يسوّغ لهم هذا البعث أن يتخذوا من الجماد صورا للملائكة؟ ثم يجعلون الملائكة بنات ينسبون بنوتها إلى اللّه، ثم يعبدونها تقربا إليه بها؟ أما كان الأولى بهم- وهم في مقام التقريب إلى اللّه- أن يجعلوا ما ينسبون له من ذرية- أن يكون من الذكور، الذين هم عندهم في مقام الحب والإعزاز، لا من الإناث الذين يسوءهم أن يولد منهن مولودة لأحد منهم؟. {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ} سفها، وضلالا.وقوله تعالى: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} هو تعقيب على قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى}.وهو حكم واقع على فعلهم هذا في نسبة البنات إلى اللّه، على حين يجعلون الذكور مطلبا لهم، ومبتغّى يبتغونه.. وهذا جور في القسمة بينهم وبين اللّه، حتى في حكم هذا المنطق الضالّ الذي يملى عليهم هذه التصورات الفاسدة.. أفلا يجعلون اللّه مساويا لهم، فيكون له من الذرية- حسب منطقهم- بنين وبنات، كما أن لهم بنين وبنات؟ واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً} [40: الإسراء].والقسمة الضيزى: هي القسمة الجائرة، التي تنقلب فيها موازين العدل رأسا على عقب.وكلمة {ضيزى} في غنّى عن تفسير مدلولها، فهى في بنائها وتركيبها من هذه الحروف الثقيلة، المتنافرة التي تجمع بين الضاد والزاى- تحكى عن صورة من الخلط والتخبط والجمع بين المتضادات، والمتنافرات، مما لا يقع إلا من المجانين والصرعى..!قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}.أي هذه المعبودات التي تطلقون عليها هذه الأسماء، ليست إلا مجرد أسماء ليس وراءها شيء يمكن أن ينتفع به، وأن هذه الأسماء هي من ضلالات آبائكم، وقد ورثتموها عنهم، كما ورثتم جهلهم وسفههم.قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى}.أي ما يتبع هؤلاء المشركون إلا ما تفيض به ظنونهم الفاسدة، وما تمليه عليهم أهواء أنفسهم المريضة.وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى} تسفيه، وتنديد بهؤلاء المشركين الذين يتبعون الظنون الباطلة، والأهواء الفاسدة، ويتخبطون في عمّى وضلال، في الحال التي يقوم فيها بين أيديهم آيات بينات من ربهم، لو استقاموا عليها لاهتدوا ورشدوا.. إن الضالّ، له عذره إذا ضل، وليس بين يديه معلم من معالم الهدى أما أن يضل، وكل معالم الهدى بين يديه، فهو الملوم المذموم بكل منطق وبكل لسان!! قوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى}.المراد بالاستفهام هنا النفي. أي أنه ليس للإنسان أن ينال كل ما تمنّيه به نفسه، ويدعوه إليه هواه.. وخاصة إذا كانت هذه الأمانى صادرة من عقول سقيمة، ونفوس مريضة، كتلك العقول، وهذه النفوس، التي يعيش بها هؤلاء المشركون.فالمراد بالإنسان هنا، هو ذلك الإنسان الذي يقيم حياته على أوهام، وضلالات، ثم ينتظر الخير من وراء هذه الأوهام وتلك الضلالات.وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى} إشارة إلى أن الإنسان- أىّ إنسان- لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، في الدنيا، أو الآخرة.. فاللّه سبحانه وتعالى يملك الأمر كله، لا شريك له.. وأن من أراد أن ينال الخير في الدنيا والآخرة، فليطلب ذلك من اللّه سبحانه وتعالى، وليسع إلى مرضاته، والقرب منه، بما ينزل عليه من آياته، وما يقدّم إليه بين يدى رسله من هدى ونور.فذلك وحده، هو السبيل إلى تحصيل الخير والفوز به.وقدمت الآخرة على الأولى، لأنها هي الأولى، بابتغاء الخير فيها، والعمل لها، وعقد الآمال عليها، وتعليق الأمانىّ بها.قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى}.أي أنه إذا كان المشركون يتعلقون بالملائكة، ويعبدونهم من دون اللّه، ويرجون منهم الشفاعة لهم عند اللّه، فإن ذلك لا يغنيهم من اللّه من شيء.إذ كان الملائكة أنفسهم هم تحت سلطان اللّه، لا ينالون شيئا إلا بما يأذن اللّه سبحانه وتعالى لهم به. إنهم ومن يعبدونهم سواء في العجز عن التصرف في شيء من ملك اللّه.. وإنه لضلال بعيد أن يطلب الخير ممن لا يملكه، ولا يطلب من مالك الملك ذى الجلال والإكرام.{وكم} في قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ} خبرية، يراد بها الكثير.والسؤال هنا، هو: إذا كان قد انتفى عن كثير من الملائكة أن يشفعوا إلا لمن أذن له الرحمن منهم في الشفاعة، ورضى شفاعته فيمن شفع له، فهل هذا يعنى أن بعضا من الملائكة غير هذا الكثير- تغنى شفاعته من غير إذن من ربه؟والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن المراد بالخبر هنا، هو ردّ على معتقد المشركين، في شفاعة هذه المعبودات التي خلعوا عليها أسماء، اخترعوها لها من أهوائهم، وجعلوها بهذا بنات اللّه، وأنها تشفع لهم عند اللّه، كما يقول سبحانه وتعالى على لسانهم: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [3: الزمر] وكما يقول جل شأنه: {وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} [18 يونس].. فأخبر سبحانه في هذه الآية، بأن الملائكة الحقيقين في السماء، لا هذه الدمى التي يمثلون بها الملائكة- هؤلاء الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا بإذن من اللّه.. فكيف يكون لهذه الدعوى- التي تلبس زورا صفة الملائكة- كيف يكون لها أن تشفع عند اللّه؟ومن جهة أخرى، فإن هذا الاستثناء يعنى أن كثيرا من الملائكة لا يؤذن لهم بالشفاعة، وأما الملائكة الذين تقبل شفاعتهم، فهم الذين يأذن اللّه سبحانه وتعالى لهم بذلك، ويقبل منهم قولهم فيمن شفعوا لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً} [38: النبأ].قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى} هو تشنيع على هؤلاء المشركين، الذين يطلقون على الملائكة أسماء مؤنثة، باعتبار أنهم أناث، وأنهم بنات اللّه!.وفى قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إشارة إلى أن آفة المشركين إنما هي في إنكارهم للبعث، ولما بعد البعث من الحياة الآخرة، وهذا ما دعاهم إلى إنكار رسالة الرسول فيهم، والتي من محاملها الإيمان باليوم الآخر، بعد الإيمان باللّه.. فهؤلاء المشركون مستعدون لأن يؤمنوا باللّه، ولكن على شريطة ألا يكون الإيمان باللّه مستدعيا الإيمان باليوم الآخر.. والإيمان كلّ لا يتجزأ.فمن آمن باللّه، وكفر باليوم الآخر، وبرسل اللّه، فهو على غير الإيمان الصحيح المقبول.قوله تعالى:{وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.أي ما لهم بهذا القول الذي يقولونه في الملائكة، من علم قائم على الحق، أو وارد من موارده.. وإنما هو عن ظنون وأوهام، وإن الظن إذا لم ينته بصاحبه إلى اليقين، هو ضلال مبين {لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أي لا يقوم مقام الحق في أي موقع من مواقعه، ولا يمسك الممسك به إلا بقبض من ريح!.قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا}.هو استخفاف بهؤلاء المشركين المعاندين، وأنهم ليسوا أهلا لأن يرص عليهم، ويبالغ في الطلب لخلاصهم.. فليتركوا ليد الهلاك والضياع.فذلك هو جزاء الظالمين.. إنهم أعرضوا عن ذكر اللّه، وردّوا اليد المبسوطة لهم بالهدى، وأبوا أن يؤمنوا بالآخرة، وأن يعملوا لها، وجعلوا الحياة الدنيا هي كل حياتهم، فأغرقوا أنفسهم فيها، واستهلكوا وجودهم في السعى لها.قوله تعالى: {ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى}.أي ذلك الذي يعيش فيه المشركون، من إعراض عن ذكر اللّه، وعن الخشية من لقائه يوم القيامة، واستفراغ وجودهم كله في الحياة الدنيا- هو غاية علمهم الذي حصّلوه بعقولهم الفاسدة.. فهم إنما كان همّهم كله منصرفا إلى الحياة الدنيا، فوجهوا عقولهم إليها، وحصلوا من العلم ما يصلهم بهذه الحياة، ويمكن لهم فيها.. وهو علم تافه، يمسك بالقشور من حقائق الأشياء، ولا ينفذ إلى صميمها، ولبابها.. ولو أن علمهم بالحياة الدنيا، كان علما قائما على فهم صحيح، وإدراك سليم، لكان لهم من هذا العلم سبيل إلى الإيمان باللّه، واليوم الآخر.. {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} [7: الروم].وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى}.هو تهديد للمشركين، الذين يحسبون أنهم لن يبعثوا، ولن يحاسبوا، وأنه ليس هناك معقب على ما تمليه عليهم أهواؤهم من ضلالات.. وكلّا، فإن اللّه يعلم ما في السموات والأرض، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [111: هود].
|